فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الحسن: عبد كلّهم العجل غير هارون، إذ لو كان ثَمَّ مؤمن غير موسى وهارون لَما اقتصر على قوله: {رب اغفر لي ولأخي}، ولدَعَا لذلك المؤمن أيضًا.
وقيل: استغفر لنفسه من فعله بأخيه، فعل ذلك لمَوْجِدته عليه، إذ لم يلحق به فيعرّفه ما جرى ليرجع فيتلافاهم؛ ولهذا قال: {يا هارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ} [طه: 92- 93] الآية.
فبيّن هارون أنه إنما أقام خوفًا على نفسه من القتل.
فدلَّت الآية على أن لمن خشي القتل على نفسه عند تغيير المنكر أن يَسْكُت.
وقد تقدّم بيان هذا في آل عمران.
ابن العربيّ: وفيها دليل على أن الغضب لا يغيّر الأحكام كما زعم بعض الناس؛ فإن موسى عليه السلام لم يغيّر غضبُه شيئًا من أفعاله، بل اطردت على مجراها من إلقاء لوح وعتابِ أخ وصكّ مَلَك.
المَهْدَوِيّ: لأن غضبه كان لله عز وجل، وسكوته عن بني إسرائيل خوفًا أن يتحاربوا ويتفرّقوا.
قوله تعالى: {قَالَ ابن أُمَّ} وكان ابن أُمّه وأبيه.
ولكنها كلمةُ لِين وعطف.
قال الزَّجاج: قيل كان هارون أخا موسى لأُمه لا لأبيه.
وقرئ بفتح الميم وكسرها؛ فمن فتح جعل {ابن أُم} اسما واحدًا كخمسةَ عشر؛ فصار كقولك: يا خمسة عشر أقبلوا.
ومن كسر الميم جعله مضافًا إلى ضمير المتكلم ثم حذف ياء الإضافة؛ لأن مبنى النداء على الحذف، وأبقى الكسرة في الميم لتدُلّ على الإضافة؛ كقوله: {ياعباد} [الزمر: 10].
يدلّ عليه قراءة ابن السَّمَيْقَع {يابنَ أُمّي} بإثبات الياء على الأصل.
وقال الكسائي والفرّاء وأبو عبيد: {يابن أُمَّ} بالفتح، تقديره يابن أُمّاه.
وقال البصريون: هذا القول خطأ؛ لأن الألف خفيفة لا تحذف ولكن جعل الاسمين اسما واحدًا.
وقال الأخفش وأبو حاتم: {يابن أُمِّ} بالكسر كما تقول: يا غلام غلام أقبل، وهي لغة شاذّة والقراءة بها بعيدة.
وإنما هذا فيما يكون مضافًا إليك؛ فأما المضاف إلى مضاف إليك فالوجه أن تقول: يا غلام غلامي، ويابن أخي.
وجوّزوا يابن أُمَّ، يابن عمَّ، لكثرتها في الكلام.
قال الزجاج والنحاس: ولكن لها وجه حسن جيّد، يجعل الابن مع الأُم ومع العَمّ اسما واحدًا؛ بمنزلة قولك: يا خمسة عشر أقبلوا، فحذفت الياء كما حذفت من يا غلام {إِنَّ القوم استضعفوني} استذلُّوني وعدّوني ضعيفًا.
{وَكَادُواْ} أي قاربوا.
{يَقْتُلُونَنِي} بنونين؛ لأنه فعل مستقبل.
ويجوز الإدغام في غير القرآن.
{فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعداء} أي لا تُسرّهم.
والشماتة: السرور بما يصيب أخاك من المصائب في الدِّين والدنيا.
وهي محرّمة مَنْهِيٌّ عنها.
وفي الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تظهر الشماتةَ بأخيك فيعافيه الله ويبتليك» وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوّذ منها ويقول: «اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من سوء القضاء ودَرْك الشقاء وشماتة الأعداء» أخرجه البخاريّ وغيره.
وقال الشاعر:
إذا ما الدّهرُ جرّ على أُناسٍ ** كَلاكِلَه أناخَ بآخرينا

فقل للشَّامتين بِنَا أفِيقوا ** سَيَلقَى الشامتون كما لَقِينا

وقرأ مجاهد ومالك بن دِينار {تَشْمَت} بالنصب في التاء وفتح الميم، {الأعداءُ} بالرفع.
والمعنى: لا تفعل بي ما تشمت من أجله الأعداء، أي لا يكون ذلك منهم لفعل تفعله أنت بي.
وعن مجاهد أيضًا {تَشْمَتْ} بالفتح فيهما {الأعداءَ} بالنصب.
قال ابن جِنّي: المعنى فلا تشمت بي أنت يا رب.
وجاز هذا كما قال: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] ونحوه.
ثم عاد إلى المراد فأضمر فعلًا نصب به الأعداء؛ كأنه قال: ولا تشمت بي، الأعداء.
قال أبو عبيد: وحكيت عن حُميد: {فلا تشمِت} بكسر الميم.
قال النحاس: ولا وجه لهذه القراءة؛ لأنه إن كان من شَمِت وجب أن يقول تشمت.
وإن كان من أشمت وجب أن يقول تشمت وقوله: {وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين} قال مجاهد: يعني الذين عبدوا العجل. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا} يعني لما رجع موسى من مناجاة ربه إلى قومه بني إسرائيل رجع غضبان أسفًا لأن الله تعالى كان قد أخبره أنه قد فتن قومه وأن السامري قد أضلهم فكان موسى في حال رجوعه غضبان أسفًا.
قال أبو الدرداء: الأسف أشد الغضب.
وقال ابن عباس والسدي: الأسف الحزن والأسيف الحزين.
قال الواحدي والقولان متقاربان لأن الغضب من الحزن والحزن من الغضب فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضب وإذا جاءك ما تكره ممن هو فوقك حزنت فتسمى إحدى هاتين الحالتين حزنًا والأخرى غضبًا فعلى هذا كان موسى غضبان من قومه لأجل عبادتهم العجل آسفًا حزينًا لأن الله تعالى فتنهم وأن الله تعالى كان قد أعلمه بذلك فحزن لأجل ذلك {قال} يعني موسى لقومه {بئسما خلفتموني من بعدي} أي بئس الفعل فعلتم بعد فراقي إياكم هذا الخطاب يحتمل أن يكون لعبدة العجل من السامي وأتباعه أو لهارون من بني إسرائيل فعلى الاحتمال الأول في أنه خطاب لعبدة العجل يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل وتركتم عبادة الله وعلى الاحتمال الثاني وهو أن يكون الخطاب لهارون ومن معه من المؤمنين يكون المعنى بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى وقد رأيتم مني الأمر بتوحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له ونفي الشركاء عنه وحمل بني إسرائيل على ذلك ومن حق الخلفاء أن يسروا لسيرة مستخلفهم وقوله: {أعجلتم أمر ربكم} معنى العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذومة والسرعة غير مذمومة لأن معناها عمل الشيء في أول وقته ولقائل أن يقول لو كانت العجلة مذمومة لم يقل موسى: {عجلت إليك رب لترضى} ومعنى الآية أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له.
وقال الحسن: أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك أنه لم يأت على رأس الثلاثين فقد مات وقيل معناه أعجلتم سخط ربكم بعبادة العجل.
وقال الكلبي: معناه أعجلتم بعبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم ولما ذكر الله تعالى أن موسى رجع إلى قومه غضبان أسفًا ذكر بعده ما أوجبه الغضب فقال تعالى: {وألقى الألواح} يعني التي فيها لاتوراة وكان حاملًا لها فألقاها من شدة الغضب قالت الرواة وأصحاب الأخبار: كانت التوراة سبعة أسباع فلما ألقى موسى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباع وبقي سبع واحد رفع منها ما كان من أخبار الغيب وبقي ما فيه المواعظ والأحكام والحلال والحرام، وروى أن الله تعالى أخبر موسى بفتنة قومه وعرف موسى أن ما أخبره الله سبحانه وتعالى به حق وصدق ومع ذلك لم يلق التوراة من يده فلما رجع إلى قومه وعاين ذلك وشاهده ألقى التوراة وهذا كما قيل ليس الخبر كالمعاينة {وأخذ برأس أخيه يجره إليه} قيل إنه أخذ بشعر رأسه ولحيته من شدة غضبه وقال ابن الأنباري لما رجع موسى ووجد قومه مقيمين على المعصية أكبر ذلك واستعظمه فأقبل على أخيه هارون يلومه ومد يده إلى رأسه لشدة موجدته عليه إذا لم يلحق به فيعرفه خبر بني إسرائيل فيرجع ويتلافاهم فأعلمه هارون عليه السلام أنه إنما أقام بين أظهرهم خوفًا على نفسه من القتل وهو قوله تعالى: {قال} يعني هارون {ابن أم} إذ قال هارون لموسى ابن أم وإن كانا لأب وأم ليرققه ويستعطفه عليه {إن القوم} يعني الذين عبدوا العجر {استضعفوني} أي استذلوني وقهروني {وكادوا يقتلونني} أي وقاربوا أهمّوا أن يقتلوني {فلا تشمت بي الأعداء} أصل الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال شمت فلان بفلان إذا سر بمكروه نزل به والمعنى لا تسر الأعداء بما تنال مني من مكروه {ولا تجعلني مع القوم الظالمين} يعني الذين عبدوا العجل. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم}، {أي رجع} من المناجاة يروي أنه لما قرب من محلة بني إسرائيل سمع أصواتهم فقال هذه أصوات قوم لاهين فلما تحقق عكوفهم على عبادة العجل داخلة الغضب والأسف وألقى الألواح.
وقال الطبري أخبره تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجع وهو غاضب ويدلّ على هذا القول قوله: {إنا قَد فتنا قومك من بعدك وأضلّهم السامري} الآية و{غضبان} من صفات المبالغة والغضب غليان القلب بسبب حصول ما يؤلم وذكروا أنه عليه السلام كان من أسرع الناس غضبًا وكان سريع الفيئة، قال ابن القاسم: سمعت مالكًا يقول كان إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته و{أسفًا} من أسف فهو أسف كما تقول فرق فهو فرْق يدلّ على ثبوت الوصف ولو ذهب به مذهب الزمان لكان على فاعل فيقال: آسف والآسف الحزين قاله ابن عباس والحسن والسدي أو الجزع قاله مجاهد أو المتلهف أو الشديد الغضب قاله الزمخشري وابن عطية قال: وأكثر ما يكون بمعنى الحزين أو المغضب قاله ابن قتيبة أو النادم قاله القتبي أيضًا، أو متقاربان قاله الواحدي قال: فإذا أتاك ما تكره ممن دونك غضبت أو ممن فوقك حزنت فأغضبه عبادتهم العجل وأحزنه فتنة الله إياهم وكان قد أخبره بذلك بقوله: {إنا قد فتنا قومك من بعدك} وتقدّم الكلام على {بئسما} في أوائل البقرة والخطاب إما للسامري وعباد العجل أي {بئسما} قمتم مقامي حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله تعالى وأما لوجوه بني إسرائيل هارون والمؤمنين حيث لم يكفوا من عبد غير الله و{خلفتموني} يدلّ على البعدية في الزمان والمعنى هنا من بعد ما رأيتم مني توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه وإخلاص العبادة له أو من بعدما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأكفهم عن ما طمحت إليه أبصارهم من عبادة البقر ومن حق الخلف أن يسير سيرة المستخلف ولا يخالفه ويقال خلفه بخير أو شرّ إذا فعله عن ترك من بعده.
{أعجلتم} استفهام إنكار قال الزمخشري يقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ويضمن معنى سبق فيعدّى تعديته، فيقال: عجلت الأمر والمعنى {أعجلتم} عن {أمر ربكم} وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره، ولم أرجع إليكم فحدّثتم أنفسكم بموتي فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم، وروي أن السامري قال لهم أحين أخرج إليهم العجل هذا إلهكم وإله موسى أن موسى لن يرجع وأنه قد مات انتهى.
وقال ابن عطية: معناه أسابقتم قضاء ربكم واستعجلتم إتياني من قبل الوقت الذي قدّرته انتهى، وقال يعقوب: يقال عجلت الشيء سبقته وأعجلت الرجل استعجلته أي حملته على العجلة انتهى، وقيل: معناه أعجلتم ميعاد ربكم أربعين ليلة، وقيل: أعجلتم سخط ربكم، وقيل: أعجلتم بعبادة العجل، وقيل: العجلة التقدّم بالشيء في غير وقته، قيل: وهي مذمومة ويضعفه قوله وعجلت إليك ربّ لترضى والسرعة المبادرة بالشيء في غير وقته وهي محمودة.
{وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه} أي {الألواح} التوراة وكان حاملًا لها فوضعها بالأرض غضبًا على ما فعله قومه من عبادة العجل وحمية لدين الله وكان كما تقدم شديد الغضب وقالوا كان هارون ألين منه خلقًا ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل منه.